الخبير الدولي و الأستاذ بجامعة حلوان و رئيس شعبة الميكانيكا
كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن وثيقة استراتيجية شاملة تهدف إلى إعادة صياغة دور الولايات المتحدة في العالم، خاصة في نصف الكرة الغربي، والعلاقات مع الصين التي باتت تمثل أكبر تحديات واشنطن.
الاستراتيجية التي نشرتها صحيفة «ذي أتلانتك» ومجلة «فورين أفيرز» تعيد إحياء مبدأ مونرو، الذي يعتبر نصف الكرة الغربي منطقة نفوذ أمريكية، وأن أي اعتداء في تلك المنطقة هو تعدٍ مباشر على الأمن القومي للولايات المتحدة… وهذا يمثل استعادة منطقية وقوية لقوة أمريكا وأولوياتها.
وتبعًا للوثيقة، فإن ترامب سيعمل على إبقاء وجود عسكري أمريكي أكبر في نصف الكرة الغربي في المستقبل لمكافحة الهجرة والمخدرات ولمواجهة صعود القوى المعادية في المنطقة، ووفقًا لوثيقة استراتيجيته الجديدة المكونة من 33 صفحة، فإنها تنص على أن «التفوق الأمريكي في نصف الكرة الغربي شرطٌ لأمنها وازدهارها». وتضيف: «يجب أن تكون شروط تحالفاتنا، وشروط تقديم أي نوع من المساعدات، مشروطةً بتقليص النفوذ الخارجي المُعادي، بدءًا من السيطرة على المنشآت العسكرية والموانئ والبنية التحتية الرئيسية، وصولًا إلى شراء الأصول الاستراتيجية بمعناها الواسع».
تصف الوثيقة هذه الخطط بأنها جزء من «مبدأ ترامب» لمبدأ مونرو. وهذا المبدأ هو الفكرة التي طرحها الرئيس جيمس مونرو عام 1823، والتي مفادها أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع أي تدخل أجنبي خبيث في نصفها الغربي. وتنص الوثيقة على أن «من مصلحة الولايات المتحدة الأساسية التفاوض على وقف سريع للأعمال العدائية في أوكرانيا»، وتخفيف خطر المواجهة الروسية مع دول أخرى في أوروبا. وبشكل عام فإنه عندما يتعلق الأمر بروسيا ــ هناك انتقادات قليلة للغاية لموسكو. بدلاً من ذلك، تُخصّص الإدارة بعضًا من أشدّ انتقاداتها للدول الحليفة للولايات المتحدة في أوروبا. وتحديدًا، تُهاجم الإدارة، بعبارات مُبطّنة، الجهود الأوروبية لكبح جماح أحزاب اليمين المتطرف، مُصنّفةً هذه الخطوات رقابةً سياسية. وتجد إدارة ترامب نفسها على خلاف مع المسؤولين الأوروبيين الذين لديهم توقعات غير واقعية بشأن الحرب في أوكرانيا في ظل حكومات أقلية غير مستقرة، وكثير منها يتجاهل المبادئ الأساسية للديمقراطية لقمع المعارضة. وتحذر الاستراتيجية من أن الهجرة سوف تؤدي إلى تغيير الهوية الأوروبية جذريًا إلى درجة قد تضر بتحالفات الولايات المتحدة. على المدى البعيد، من المرجح جدًا أن تصبح أغلبية أعضاء الناتو غير أوروبية في غضون بضعة عقود على الأكثر.
وتكشف استراتيجية الأمن القومي الجديدة أن الولايات المتحدة أمامها خيارات صعبة في المجال العلمي بعد أن أقنعت نخب السياسة الخارجية الأمريكية نفسها بأن الهيمنة الأمريكية دائمة على العالم أجمع، إلا أن الواقع كشف أن هناك دولًا كانت تتمتع بدعم أمريكي أصبحت منافسًا خطيرًا لها في إشارة إلى الصين.
وتعتبر أن تزايد عدائية الصين يُمثّل أخطر تهديدٍ طويل الأمد لقوة أمريكا العالمية. لكن رغم صرامة لغة استراتيجية ترامب، إلا أنها حذرة وبعيدة عن التحريض. وتعهدت بإعادة التوازن إلى العلاقة الاقتصادية بين واشنطن وبكين، مع إعطاء الأولوية للمعاملة بالمثل والعدالة لاستعادة الاستقلال الاقتصادي الأمريكي.
وتنص الاستراتيجية على ضرورة تعزيز الولايات المتحدة لعلاقاتها مع حكومات أمريكا اللاتينية، بما في ذلك العمل معها لتحديد الموارد الاستراتيجية – في إشارة واضحة إلى مواد مثل المعادن الأرضية النادرة. كما تُعلن أن الولايات المتحدة ستعزز شراكتها مع القطاع الخاص لتعزيز «فرص الاستحواذ والاستثمار الاستراتيجية للشركات الأمريكية في المنطقة». تُرضي هذه التعهدات التجارية، ولو بشكل عام، العديد من حكومات أمريكا اللاتينية التي لطالما شعرت بالإحباط من قلة اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة. إلا أنه من غير الواضح كيف تنسجم هذه الوعود مع إصرار ترامب على فرض رسوم جمركية على شركاء أمريكا التجاريين.
وتعد الوثيقة أحدث – وأوضح – تعبير عن رغبة ترامب في إحداث تغيير في النظام العالمي الذي استقر في أعقاب الحرب العالمية الثانية والمبني على شبكة من التحالفات والمجموعات متعددة الأطراف، وإعادة تعريفه من خلال شعار «أمريكا أولًا».
لكن بيت القصيد بالنسبة لنا هو موقع منطقة الشرق الأوسط في هذه الاستراتيجية. واللافت أن الوثيقة نادرًا ما ذكرت «الشرق الأوسط» صراحة، بينما ذُكرت إسرائيل مباشرة ست مرات، وأُكدت أن أمنها أولوية قصوى. وترى واشنطن أن مصلحتها في المنطقة تكمن أساسًا في تجنب «الحروب الأبدية» المكلفة.
تصف إيران بأنها «القوة الرئيسية المزعزعة للاستقرار»، لكنها تشير إلى أن الضربات الأمريكية والإسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023، وعملية «مطرقة منتصف الليل» في يونيو 2025، قد أضعفت برنامجها النووي وأذرعها في اليمن ولبنان وسوريا بشكل كبير.
وتقول الوثيقة إن الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني لا يزال الأصعب، لكن بفضل وقف إطلاق النار وإطلاق الرهائن تم إحراز تقدم نحو سلام أكثر ديمومة، وإن داعمي حماس قد أُضعفوا أو تراجعوا.
خلاصة الحسابات الأمريكية الجديدة: الشرق الأوسط خرج عمليًا من المعادلة الاستراتيجية العظمى. لم يعد مركز صراع عالمي ولا لوحة شطرنج جيوسياسية. النفط فقد قيمته الاستراتيجية (أمريكا مكتفية ذاتيًا، أوروبا تتجه للطاقة المتجددة، والعالم يبحث عن بدائل). حتى أوروبا لم تعد تهتم بالمنطقة إلا من زاوية منع موجات اللجوء والهجرة. وحتى «الممرات الاستراتيجية» بدأت تفقد أهميتها مع وجود مسارات وتقنيات شحن بديلة، وهو ما ظهر بوضوح بعد تداعيات حرب 7 أكتوبر.
الوثيقة ليست مثالية، ونجاحها يعتمد على التطبيق أكثر من الكتابة. لكنها تعكس بوضوح الواقع الجيوسياسي الجديد. المتغير الوحيد المقلق هو شخصية ترامب المتقلبة التي قد تجعل الالتزام بهذه الاستراتيجية غير مضمون، أو أن حدثًا عالميًا كبيرًا قد يُغيّر الأولويات فجأة. ومع ذلك، فالوثيقة تتماشى إلى حد كبير مع التحركات الفعلية لإدارته في الولاية الثانية ومع رؤية كثير من مستشاريه.